العبادات في الإسلام ليست مجرد مظاهر وشعائر، بل تحمل في حقيقتها معانٍ وأخلاقيات حسنة وفوائد اجتماعية عظيمة ومتعددة..  ولن تكون أبداً رحلة الحج مثل أي رحلة أخرى تنقضي فينتهي أثرها..  وقد ذكرت في مقالات سابقة أنّ من منافع الحج أن يجعل حياتك بهدف، وأن يوجه المشاعر لتكون دافعاً إيجابياً نحو تحقيق الهدف الأفضل..  وحين يحصل ذلك فستظهر لنا المنفعة التالية وهي بناء الشخصية الجادة..  ولما للحجّ من أثرٍ كبيرٍ في بناء شخصية جادة راسخةٍ كان واجباً على الفور عند الاستطاعة..  وهو ما أدركه العلماء وعملوا به.. ومن الأمثلة عالم شنقيط محمد المصطفى عالم الذي ارتحل فكان أوّل سفرٍ له إلى الحج سنة 1274هـ، وحين عاد شيّد مدينة السماوة وألّب القبائل ضد الاستعمار وجدّ في تلقي معظم العلوم الدينية وصنوف الأدب وألف كثيرا من الكتب..  وهكذا نلاحظ كثيراً ممنْ يحجون -حجاً كامل الأركان والبناء- يعودون بعد الحجّ أكثرَ همّة ولديهمْ طاقة ورغبة في تحقيق شيء آخر له قيمة وأهداف عظيمة..  إذا علمنا أنّ الحجّ واجب على الفور عندما تتحقق الاستطاعة فكلّ عملٍ يتوجب على الجاد أن يبدأ فيه بلا تأخير.. قال عليه السلام: "من أراد أن يحجّ فليتعجل فإنه قد تضلّ الضالة ويمرض المريض وتكون الحاجة" حديث حسن.  الحجّ يغرس في النفوس أنّ الجدية هي سبيل الحياة، وأن حياة الفراغ وحياة العبث لا مكان لها، فتلحظ أنّ أعمال الحج كثيرة وكلها تحتاج إلى عملٍ ومشقة وجهد ونصب.. فمَنْ لم يكنْ جاداً لا يمكن أن يقضي حجه.. ومن كان متكاسلاً في أعماله وحياته لا يمكن أن يصل إلى مطلوبه ومراده من نواحيه الدنيوية والأخروية..  من بداية الحج يأتي الإحرام والاجتهاد في التلبية.. هذه اللحظة تسمى لحظة البداية.. ومن كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة.. الإحرام يعني الانخلاع من جميع الشهوات الأرضية والبداية الجادة لمرحلةٍ نوعية حيث يُحظر على الإنسان أشياء غالبها كان مباحاً..  ومع الإحرام يحتاج إلى أنْ يهتف بالتلبية بقلبه قبل أنْ ينطق بها لسانه، ولاحظوا أنّ الذي يُعلن عن هدفه فإنما يقطع على نفسه كلّ خط للرجعة، ويشحذ همة نفسه، كان أصحاب النبي ــــ صلى الله عليه وسلم ـــــ إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم, لقوله ـــــ صلى الله عليه وسلم ــــــ "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية"..  ولذلك فكل عاقل يمكنه مع الموسم العظيم السنوي أنْ يُحرم هو أيضاً بأنْ يجعل لنفسه انطلاقة جديدة قد تضطره إلى أنْ يمنع نفسه من بعض رغباته ولو مؤقتاً حتى يبدأ مرحلة جديدة نوعية من حياته.. ويُعلن عن هذه المرحلة وينطلق في سبيل تحقيقها بكلّ معاني الجدية..  أذكر في قصة لشخص من جنسية عربية أعرفه كان يعاني ظروفاً مادية ومعيشية صعبة، قرر أنْ ينتقل إلى إحدى الدول الغربية ليواصل دراسته ويحصل على جنسية تساعده في مسيرته العلمية.. وكان ذلك يتطلب ثلاث سنوات من التقشف الأسري الشديد حتى يمكن الاستعداد لهذا الانتقال.. وأذكر أنه قال لي بنفسه إنهم انتقلوا إلى مسكنٍ أصغر وكانوا لا يتوسعون في الأكل ولا الملابس.. حتى جمعوا المال الكافي وسافروا وأكملوا الدراسة وأخذوا الجنسية وعادوا إلى العيش في الخليج وكانتْ أوضاعهم المادية في وضْعٍ ممتاز جداً عوضهم عن كل التقشف الذي اضطروا له.  وأذكر شخصاّ وصل إلى قناعة أنّ لديه ضعفاً علمياً وثقافياً كبيرا بسبب عدم القراءة، فاتخذ قراراً أن يكون وقته بعد صلاة العشاء يومياً ولمدة عام كامل متفرغاً للقراءة ثلاث ساعات قبل النوم على الأقل.. واعتذرَ لكلّ من حوله عن أي ارتباطات بعد صلاة العشاء.. فأخبرني أنه كان يقرأ بمتوسط 200 صفحة يومياً وكان لذلك أثر كبير في شخصيته وحياته بعد ذلك ورأيته بارزاً في كثيراً من الساحات الثقافية والاجتماعية.  ممارسة الأنشطة الجادة بالشكل الجاد.. يعطي الفرد نضجاً وعمقاً وإدراكاً ما كان يعرفه قبل ذلك..  من الطرائف أن بعض السابقين ألف عن المناسك، فلما حجّ عاد وأحرق كتابه وصنف كتاباً آخر.. الحجّ يعلّم كلّ فرد أنْ يعمل بإتقان وجودة تقتضي مستوى عالياً من الإخلاص والإيمان بالهدف..  وهذا مقياس للجدية.. فقد يبدأ البعض عملا ويجد فيه ثمّ يتوقفْ أو ينتهي وهو دون المستوى المطلوب.. تذكر أننا نبحث عن الحجّ المبرور وليس مجرّد الحجّ..  الجدية تنعكس على صاحبها حتى في وقت راحته ومرحه.. أذكر سؤالاً وُجه إلى الشيخ ابن باز رحمه الله: "إذا كان المرء وقت راحته يفكر في مشاريع وأفكار تنفع المسلمين.. هل ينال الأجر من الله تعالى على ذلك؟)).. وأذكر أحدهمْ أقام مع أبنائه في المنزل مشروعاً صغيراً وهو إنشاء غرفة في ملحق البيت.. فتعلم كلّ أفراد الأسرة مبادئ النجارة والسباكة والبناء في متعةٍ وتحدي.. ويقول إنه ظهرتْ له من أبنائه الكثير من المهارات والمواهب التي ما كان يعرف عنها من قبل.  وهنا يجب أن نكون واقعيين.. هذه الجدية ليستْ سهلةً في مجتمعٍ يتفنن في البحث عن ابتكار وسائل تضييع الوقت.. ولذا فعليك أن تشحن عزيمتك وتتذكر التالي: "إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك" صححه الألباني..  وقد جرتْ السنة الكونية بأنّ الذين يسيرون نحو أهدافهم بجدية يحصلون على ثمار يانعة كثيرة أكبر مما توقعوا بكثير.. أعرف من اجتهد في التجارة والعمل الحرّ منذ صغره وكان في الوقت الذي يستمتع أقرانه بشراء سيارة جديدة أو يسافرون للمتعة كان يستثمر ماله في شيء نافع.. فأصبح من كبار رجال الأعمال في بلده وحقق سمعة عالمية وهو في الثلاثينات من العمر..  الحجّ يعلمنا الجدية.. والجدية تقتضي مكابدة المشاق.. ولذا فالشخصية الجادة تحتاج إلى كثيرٍ من السلوكيات والأخلاق الرفيعة لتخطي المشاق.. وهو بعد آخر يمثل أحد أعظم منافع الحج. 

د. محمد بن يحيي آل مفرح

مبتكر ومؤسس منظومة (الترفيه وفق الطلب - On-demand Entertainment )